الثلاثاء، ٢٧ نوفمبر ٢٠٠٧

عالم طريح الفراش

المرض

حين تستهلك الحضارة الانسانية الدائمة التطور قواها الروحانية تبدأ مرحلة من التفكك والتفسخ وتشبه هذه المرحلة التى هى بمثابة إنحطاط بين حضارتين ببداية فصل الشتاء ففى هذه المرحلة نجد حيوية الخُلق وقد تضاءلت وتماسك المجتمع وقد تناقص ويتحول كل تحدِ ليصبح عقبة لا يمكن تخطيها بعد ان كان من الممكن فى زمن سابق التغلب على مثل هذا التحدى او ترجمته الى فرص وامكانات تحقق اكتشافات وانجازات ، كما يفقد الدين موقعه وتتبعثر الجهود فى مجالات البحث والاختيار تبعثر متزايد وتتفاقم الانقسامات والخلافات الاجتماعية عمقاً ،واخيراً يتعاظم الشك ويزداد فقدان الثقة بمعنى الحياة وقيمتها فيولد القلق والحيرة والاضطراب تماماً كما هو الحال فى عصرنا اليوم ويصف حضرة بهاء الله ذلك العصر الراهن فيقول:
" نشاهد بوضوح كيف احاطت بالعالم من كل الجهات البلايا العظيمة والرزايا ، ونرى العالم طريح فراش المرض تبرحه الالام ، ووقف أولئك الذين أسكرهم غرور النفس والهوى حائلاً بين هذا المريض وذلك الطبيب الحاذق ، فإنظروا كيف اوقع هؤلاء الناس جميعاً ، بما فيهم انفسهم فى حبائل مكائدهم فهم عاجزون عن إكتشاف هذا المرض لا يعلمون كيف يصفون الدواء ، ينظرون الى ما استقام من الامور فيرونه معوجاً ويتراءى لهم الصديق فيحسبونه عدواً"
وهذا بالفعل ما يحدث الان فعندما يتحقق كل هذا يظهر ظهور الهى جديد مدعوم بقسطٍ كامل من الوحى والإلهام لمواجة المرحلة التالية من مراحل ايقاظ الجنس البشرى وتربيته ليخلق حضارة جديدة، فيلجأ قسم من البشر بالإستجابة لدعوة الظهور الالهى الجديد ويبدأ النموذج الروحانى والاجتماعى الجديد بإتخاذ شكله وصورته ، ويستطيع الناس فى سد رمقهم الروحى والخلقى معتمدين على اخر ما تبقى من أثار النعمة التى أغدقت عليهم فى الماضى ، وسواء أكانت المهام اليومية للمجتمع منفذة أم غير منفذة ،والقوانين تحظى بإحترام الناس او مخالفتهم لها والاختبارات الاجتماعية والروحية ناجحة او فاشلة تبقى مسألة ان جذور الايمان حينئذ قد ذوت وإضمحلت وفى هذه الحالة لا يمكن لآى مجتمع ان يدوم بدون ايمان فعند "نهاية كل عصر" او "نهاية العالم" او "اخر الزمان" تحاول النفوس المستعدة روحياً التوجه من جديد نحو المصدر الخلاق ومهما كانت هذه المحاولة مشوبة بالفوضى والإضطرابات والخيارات مشوشة وتعيسة فما سعيهم الا استجابة غريزية لإحساسهم بحدوث صدع رهيب فى الحياة المنتظمة للجنس البشرى
.


العلاج
والهدف من تتابع المظاهر المقدسة هو تهيئة الوعى الإنسانى لتحقيق الوحدة والإتحاد للنوع البشرى ليصبح فعلاً كائناً عضوياً واحداً بإستطاعته تحمل مسؤليته تجاه المستقبل الجماعى للإنسان . ويقول حضرة بهاء الله " ان ربكم الرحمن يحب ان يرى من فى الأكوان كنفسٍ واحدةٍ وهيكلٍ واحد"
لذا تستطيع الانسانية مواجهة التحديات الراهنة حتى تعترف بوحدتها العضوية وتقبل بها قضية مسلمة ويؤكد لنا بهاء الله انه" لايمكن تحقيق إصلاح العالم ولن تستطيع الانسانية مواجهة التحديات الراهنة حتى تعترف بوحدتها العضوية وتقبل بها قضية مسلمة"
فلايمكن تحقيق إصلاح العالم وإستيتاب أمنه وإطمئنانه إلا بعد ترسيخ دعائم الإتحاد والإتفاق لذا لن يجد بنو البشر إطمئناناً حقيقياً الا بتأسيس مجتمع عالمى موحد، فمن غير الممكن للإنسانية ان تحافظ على التعددية الفردية محافظة سليمة الا بعد ان تحقق الوحدة الحقيقة.
وهذا هو الهدف الذى سعت من أجله كل رسالات المظاهر الالهية التى عرفها التاريخ الانسانى "إنه اليوم الذى يتوحد فيه العالم وهناك تكون رعية واحدة وراعٍ واحد"
إن تحق مجئ هذا اليوم وشيك فهو مرحلة من مراحل التطور الحضارى التى ولجها الجنس البشرى الان. فالميزة الرئيسية لهذا العصر الذى بدأنا دخوله هى مبدأ وحدة العالم الانسانى ، وما هذا المبدأ الا ميزان صحيح لتقويم الإقتراحات المتعلقة بإصلاح المجتمع الإنسانى وتحسين أوضاعه فإن الجنس البشرى جنس واحد لا إختلاف بين أفراده وأن النظريات الموروثة التى تميز مجموعة عرقية من البشر فتعطيهم منزلة أسمى من غيرهم نظريات باطلة لا أساس لها من الصحة ،وبالمثل فإن الوحى الذى جاء به كل رسول هو جزء لا يتجزأ من التراث الجماعى للجنس البشرى ككل ، وكل فرد فى هذا العالم إنما هو وريث شرعى لهذا التراث الروحى بأكمله لآن المظاهر الإلهية كلها ما جاءت الا لتنفيذ المشيئة الواحدة لله سبحانه وتعالى .
لذا الإصرار على التمسك بالتعصبات مهما كانت ألوانها يلحق الضرر بمصالح المجتمع الإنسانى ويشكل إنتهاكاً لمشيئة الخالق .
يقول حضرة بهاء الله فى هذه النقطة بالتحديد الاتى :
" ايتها الاحزاب المختلفة توجهوا نحوا الاتحاد ونورا أنفسكم بنور الإتفاق ، أن إجتمعوا لوجه الله فى مقرٍ واحدٍ وأزيلوا كل ما هو سبب الإختلاف فيما بينكم فلا ريب فى أن أحزاب العالم وشعوبها متوجهة الى الافق الاعلى ومنفذة لآمر الحق وما الإختلاف بين الشرائع والاحكام التى تجريها الا نتيجة مقتضيات العصر والزمان فكلها من عند الله أنزلها بمشيئته سوى بعضِ ما خلقهُ العِناد ، أن اكسروا بيد الإيقان أصنام الإختلاف والاوهام ، قد إرتفعت خيمة الإتحاد لا ينظر بعضكم الى بعض كنظرة غريب الى غريب ، وعاشروا مع الاديان كلها بالروح والريحان فكلكم اثمار شجرةٍ واحدةٍ وأوراق غصنٍ واحدٍ"
إن مسيرة الإنسانية نحو بلوغ سن الرشد وصلت غايتها أثناء تطور النظام الإجتماعى فى العالم فإبتداء من وحدة النظام العائلى وإمتداداته المختلفة طور الجنس البشرى بدرجات متفاوتة من النجاح مجتمعات قامت على اساس (النظام العشائرى) ثم (القبلى) ثم (نظام المدينة – الدولة) ومؤخراً (نظام الأمة – الدولة) وبتوسع البيئة الإجتماعية المطرد وإزدياد أمورها تعقيداً تُشحذ الإمكانات الإنسانية ويتسع أفق نموها وينتج بدوره تعديلات مستحدثة وجديدة فى نسيج المجتمع.
ولبلوغ الإنسانية سن الرشد يستلزم حدوث تحول شامل فى النظام الإجتماعى الراهن ليصبح نظاماً قادراً على إستيعاب التعددية الموجود فى الجنس البشرى بصورة شاملة والاستفادة الكاملة من المجال الواسع لمختلف المواهب والمعارف التى هذبتها الأف السنين من الخبرات الثقافية والتجارب الإنسانية .
يقول حضرة بهاء الله فى هذه النقطة بالتحديد الاتى :
" اليوم يوم الفضل الأعظم والفيض الأكبر وعلى الجميع أن يجدوا الراحة والإطمئنان بتمام الإتحاد والإتفاق فى ظل سدرة العناية الإلهية فلسوف يرفع بساط هذا العالم ليحل محله بساط أخر إن ربك لهو الخالق علام الغيوب"
وإقامة العدل فى الشؤون الإنسانية لهو الوسيلة الرئيسية لإحداث التحول والتغيير فى المجتمع لتتحقق وحدة العالم الانسانى واتحاده ويحتل هذا الموضوع مكاناً رئيسياً فى تعاليم حضرة بهاء الله حيث قال:
" العدل سراج العباد فلا تطفئوه بإرياح الظلم والإعتساف المختلفة والمقصود منه ظهور الإتحاد بين العباد وفى هذه الكلمة العليا نموذج بحر الحكمة الإلهية وإن دفاتر العالم لا تكفى تفسيرها"
إن النتائج المترتبة على تنفيد هذا المبدأ فى عصر بلغت فيه الإنسانية نضجها يلزمنا بالإعتراف والعمل بمبدأ المساواة بين النساء والرجال فهم كانوا وسيكونون متساويين فى نظر الله . فلتقدم الحضارة يتطلب على المجتمع تنظيم شؤونه بحيث يبرز هذا المبدأ كحقيقة واضحة فى الوجود وعليه ان يعرف ان موراد الارض ملك للإنسانية جميعاً وليس لشعب من الشعوب وان الاسهامات المختلفة التى تفيد الصالح الإقتصادى العام جديرة بأن يعترف بدورها وتكافأ بما يتناسب مع حجمها المختلف ،واخيراً يجب إزالة الفوارق الشاسعة بين الأغنياء والفقراء وهى ما ابتليت به معظم أمم الارض بغض النظر عما تعتنفه هذه الأمم من فلسفات إجتماعية وإقتصادية.

ليست هناك تعليقات: